حقيقة سلسلة الكُتل «بلوك تشين»‏

📚 4 min read X this post
Broken Chain

هذه ترجمة عربية لمقالة بابلو روزي بعنوان «La vérité sur la blockchain» مع بعض التصرفات اللغوية والتوضيحات لتيسير الفهم بالعربية.

على مدار السنوات القليلة الماضية، حظيت تقنية سلاسل الكُتل (blockchains) بالكثير من الضجة الإعلامية، إلى حدٍّ كبير، حتى استُخدمت في شتى المجالات. وتكاثرت المشاريع التي تعتمد عليها دون أن يكون اختيار هذه التقنية مبرَّرًا، يبدو أن السبب في ذلك يعود أساسًا إلى تأثير العربة – نتاج نزعة تؤمن بأن التكنولوجيا قادرة على حل جميع المشكلات – إضافةً إلى الفرص التمويلية الكبيرة التي صاحبت هذا الاتجاه وأسهمت في انتشاره.

في الغالب، تقوم هذه المشاريع على مبدأ تسجيل المعلومات ضمن سلسلة الكُتل، مع الادّعاء بأن هذه التقنية تمنحها نوعًا من الضمان أو الموثوقية. فعلى سبيل المثال، تظهر بانتظام مشاريع تسعى إلى تخزين بيانات التتبّع، أو السجلات الموثَّقة، أو حتى الشهادات الدراسية داخل سلسلة الكُتل، بدعوى أنها تضمن أمان هذه المعلومات وصحّتها، وتُزيل الحاجة إلى الوسطاء.

من المهم أن نفهم أن الغاية من سلسلة الكُتل هو تحقيق إجماع موزّع1 (Distributed consensus) — أي تمكين مجموعة من الأنظمة المستقلة من الاتفاق على معلومة مشتركة:

  1. دون الحاجة إلى أي سلطة مركزية،
  2. وفي بيئة تتسم بانعدام الثقة المتبادلة.

وعندما لا تكون هناك حاجة إلى هذا النوع من الإجماع، فإن استخدام سلسلة الكُتل لا يقدّم أي فائدة حقيقية.

في ضوء هذا التوضيح، يتبيّن جليّاً أن كثيرًا من المشاريع القائمة على سلسلة الكُتل تفتقر إلى أي منطق.
ويشمل ذلك بالدرجة الأولى سلاسل الكُتل الخاضعة لسيطرة مركزية (centrally controlled) أو تفرض شكلًا من أشكال التحكم في الوصول (permissioned)، وكذلك المشاريع التي تدّعي الاستغناء عن سلطة مركزية، رغم أن وجود مثل هذه الجهة ضروري بطبيعته.

لنأخذ مثال الشهادات الجامعية. تُمنَح الشهادة بالضرورة من مؤسسة تعليم عالٍ معتمدة من الدولة — أو من جهة أخرى مخوّلة بذلك، لا فرق في الجوهر — لذلك، فإن إدراج الشهادات أو التصديقات الجامعية ضمن سلسلة الكُتل لا معنى له، لأن الجهة التي أصدرت الشهادة هي الوحيدة القادرة فعليًا على التحقّق من صحتها. وهذا يعني أن وجود سلطة مركزية أمر لا غنى عنه لتوثيق الشهادات، سواء كانت شهادات ورقية أو رقمية. وبالتالي، لا حاجة لاستخدام سلسلة الكُتل، بل إن استخدامها قد يكون ذا أثر عكسي. وإذا كان التصديق الرقمي للشهادات مفيدًا، فيمكن إنجازه بوسائل أكثر فاعلية وأقل تكلفة من دون سلسلة الكُتل — وهي تقنيات نُتقنها جيدًا، مثل تلك التي تُستخدم في شهادات TLS لتأمين اتصالات HTTPS على شبكة الويب، على سبيل المثال.

غير أن المشكلة في المشاريع القائمة على سلسلة الكُتل أعمق من ذلك بكثير.
فما لا يدركه كثيرون — أو لا يرغبون في إدراكه — هو أن البيانات المُسجَّلة على سلسلة الكُتل، في أغلب الأحيان، لا تمتلك أي قيمة حقيقية أو قوة إثبات — أي لا تُعتبَر حتى إثباتًا قانونيًا أو معترفًا به — في العالم الواقعي ما لم تُدعَم بسلطة خارجية تفرض تطبيقها. فالأمر يشبه تمامًا عقدًا مكتوبًا على الورق: لا يكتسب هذا العقد أي قيمة إلا إذا التزمت به جميع الأطراف، أو وُجدت سلطة ثالثة قادرة على إلزام الأطراف المتنصّلة بتنفيذه.

الحقيقة الوحيدة التي تضمنها عملية تسجيل معلومة ما على سلسلة كُتل معينة، هي أن هذه المعلومة، بالذات قد سُجِّلت على تلك السلسلة، ولا شيء أكثر من ذلك.

بالتالي، لا تكون عملية تسجيل المعلومات على سلسلة الكُتل ذات معنى إلا عندما تكون الكتابة نفسها هي التي تُنشئ الحقيقة — أي ما يُعرف في الفلسفة بـالكتابة الإنشائية (performative writing), أي تلك التي تُنشئ الواقع لمجرد حدوثها. وهذا هو الحال في العملات المشفّرة، حيث يُحسب رصيد المحفظة2 انطلاقًا من المعاملات المُسجّلة على سلسلة الكُتل الخاصة بها. فالحقيقة هناك محلّية بالكامل، لا وجود لها إلا داخل تلك السلسلة: ما يُكتَب هو وحده ما يُعتَرَف به.

علينا ألا نخلط بين ما نكتبه لأنه صحيح، وبين ما نعدّه صحيحًا فقط لأنه مكتوب.

باستثناء العملات المشفّرة، لم أجد حتى الآن أي مثال آخر يبرّر استخدام سلسلة الكُتل3. فقد رأينا للتو أن أي معلومة تُسجَّل على سلسلة الكُتل وتتناول شيئًا خارجها لا تمنح في الواقع أي ضمان إضافي عمّا قد يقدّمه مجرّد تسجيلها على ورقة عادية.
وعليه، فإن سلسلة الكُتل لا يمكن أن تكون بديلًا إلا للورق، لا لِما يكتبه الإنسان عليه — وهي بديلٌ أقل كفاءة، وأكثر كلفة، وأشدّ ضررًا بالبيئة، وأقل احترامًا للخصوصية، وغير عملي من الأساس.
ومن ثمّ، تبقى جميع المؤسسات والهيئات التي تمنح الوثائق معناها وقيمتها — سواء كانت جهة توثيق، أو دائرة عقارية، أو جامعة — ضرورية كما كانت من قبل.

باستخدام سلسلة الكُتل، ندفع ثمن اللامركزية وانعدام الثقة، من دون أن نحقّق أي لامركزية فعلية، أو نُزيل الحاجة إلى الثقة أصلًا.

الهوامش

  1. لاحظ أن معنى «الإجماع» هنا خاص بعلم الحاسوب؛ فهو لا يعني أن جميع المشاركين يوافقون عن قناعة على فكرة، كما هو الحال في المعنى السياسي الشائع للإجماع، بل يعني فقط أن جميع المشاركين يرون الشيء نفسه، سواء كانوا موافقين عليه سياسيًا أم لا. وفي الحالة الخاصة بسلاسل الكُتل فإن “الإجماع” يتم فعليًا على شيء أراده مشارك واحد ضد جميع الآخرين.

  2. المصطلح المستخدم هنا مضلِّل بشكل خاص؛ ففي العالم الواقعي، تكون «المحفظة» في الحقيقة لامركزية، ولا تعمل إطلاقًا كما تعمل في عالم العملات المشفّرة. والأصح أن نتحدث عن “حسابات” بدلًا من “محافظ”، إذ إن طبيعة المعاملة المالية على سلسلة الكُتل تشبه إلى حد كبير تحويلًا مصرفيًا داخليًا، أكثر مما تشبه تعاملًا نقديًا

  3. ولا يعني ذلك أن وجود العملات المشفّرة مبرَّر بحد ذاته، بل فقط أن شكلها الحالي يعتمد، بالضرورة، على تقنية سلسلة الكُتل. أما مسألة ما إذا كانت العملات المشفّرة شيئًا جيدًا أم لا، فليست موضع النقاش هنا — والجواب: ليست كذلك — للمزيد، راجع : The List of Tired Crypto Talking Points.

blockchain cryptocurrency web3