هذه ترجمة عربية لمقالة بابلو روزي بعنوان ”La vérité sur la blockchain“.
على مدار السنوات القليلة الماضية، حظيت تقنية سلاسل الكُتل (blockchains) بالكثير من الضجة الإعلامية، حيث تم استخدامها في شتى المجالات. تتزايد المشاريع المعتمدة على تقنية سلسلة الكُتل (blockchain) دون أي اعتبار حقيقي لمدى ضرورتها. يبدو أن هذا يعود بالكامل إلى تأثير العربة (وهو نابع أصلاً من فكرة عمياء تؤمن بأن التكنولوجيا تحل كل شيء)، إلى جانب التمويلات التي تدفقت لاحقًا وساهمت في تغذية هذه الموجة…
في معظم الأحيان، تقتصر هذه المشاريع على تسجيل المعلومات على سلسلة الكُتل، ثم الادعاء بأن هذا التسجيل يوفّر نوعًا من الضمان. فعلى سبيل المثال، نشهد بانتظام مشاريع تهدف إلى إدراج بيانات التتبع، أو الصكوك، أو حتى الشهادات الدراسية ضمن سلسلة الكُتل، مدّعية أن ذلك يضمن أمان هذه المعلومات وصحتها، ويُغني عن الحاجة إلى الوسطاء.
من المهم أن نفهم أن الهدف من سلسلة الكُتل هو السماح بالتوصل إلى إجماع موزّع1 (Distributed consensus). أي تمكين مجموعة من الأنظمة المستقلة من الاتفاق على معلومة مشتركة، 1- دون الحاجة إلى أي سلطة مركزية، و2- في سياق عدائي (حيث لا يثق أحد بالآخر). عندما لا تكون هذه الحاجة المحددة مطلوبة، فلا داعي لاستخدام سلسلة الكُتل
في ضوء ما تقدم، يتضح بالفعل أن العديد من المشاريع المعتمدة على سلسلة الكُتل لا معنى لها، بدءًا من جميع تلك التي تُبنى حول سلسلة كُتل بإذن مسبق (permissioned) أو خاضعة لسيطرة مركزية (centraly controlled)، وأيضًا جميع تلك التي تهدف إلى تجاوز الحاجة إلى سلطة مركزية على الرغْم من أن وجود هذا الطرف الثالث ضروري بطبيعته.
لنأخذ مثال الشهادات الدراسية. يتم إصدار الشهادة الدراسية الرسمية بالضرورة من قبل مؤسسة تعليم عالٍ معتمدة من الدولة، وعادةً ما تكون جامعة. لذلك، فإن تسجيل الشهادات الدراسية على سلسلة الكُتل لا معنى له، لأن الجهة التي تُصدر الشهادة هي الوحيدة القادرة على التصديق على صحتها. هذا يعني أن هناك سلطة مركزية ضرورية لتصديق الشهادة الدراسية، بغض النظر عن كيفية وجود الشهادة، سواء كانت قطعة من الورق المقوى أو بصيغة رقمية. وبالتالي، لا توجد حاجة لاستخدام سلسلة الكُتل، وفي الواقع، قد يكون استخدامها مضادًا للإنتاجية. وإذا كان التصديق الرقمي للشهادات الدراسية مفيدًا، فمن الممكن تحقيق ذلك بطريقة أكثر فاعلية وأقل تكلفة بدون سلسلة الكُتل (ونحن نعرف تمامًا كيف نُنفِّذ ذلك: فهو الأسلوب الذي نعتمد عليه في إدارة شهادات TLS، المستخدمة في تأمين اتصالات HTTPS، على سبيل المثال).
المشكلة الحقيقية في المشاريع المعتمدة على سلسلة الكُتل أعمق من ذلك.ما لا يدركه الكثير من الناس (أو لا يريدون إدراكه)، هو أنه، كقاعدة عامة، لا تحمل البيانات المُسجَّلة على سلسلة الكُتل أي قيمة حقيقية في العالم الواقعي، ما لم تُفرض من قبل سلطة خارجية. تمامًا كما أن العقد المكتوب على الورق لا تكون له أي قيمة أو معنى، ما لم تلتزم به جميع الأطراف، أو إذا وُجد طرف ثالث قادر على إلزام من يحاول التنصل منه بتنفيذه.
الحقيقة الوحيدة التي تضمنها عملية تسجيل معلومة ما على سلسلة كُتل معينة، هي أن هذه المعلومة، تحديدًا، موجودة على تلك السلسلة، ولا شيء أكثر من ذلك.
بالتالي، فإن تسجيل المعلومات على سلسلة الكُتل لا يكتسب أي معنى إلا إذا كانت الكتابة ذاتها هي ما يُنتج الحقيقة. وهذا ما يُعرف فلسفيًا بالكتابة الإنشائية (performative writing) أي تلك التي تُؤسِّس الواقع لمجرد حدوثها. وهذا ما يحدث مثلًا في العملات المشفّرة، حيث يُحسب رصيد المحفظة2 انطلاقًا من المعاملات المُسجّلة على سلسلة الكُتل الخاصة بتلك العملة. فالحقيقة، هناك، تظل محصورة داخل السلسلة: ما كُتب هو وحده ما يُعتَرف به.
علينا أن نُميّز بين ما يُسجَّل على سلسلة الكُتل لأننا نعرف أنه صحيح، وما نُسلِّم بصحّته فقط لأنه مُسجَّل عليها
بعيدًا عن العملات المشفّرة، لم أجد أي مثال آخر يبرّر استخدام سلسلة الكُتل3. ولأسباب وجيهة. فقد أوضحنا للتو أنه ما إن ترتبط المعلومة المسجّلة على سلسلة الكُتل بشيء خارجها، فإن هذه السلسلة لا تقدّم أي ضمان يتجاوز ما قد تقدمه ورقة مكتوبة. وعليه، ففي مثل هذه الحالات، لا تكون سلسلة الكُتل سوى بديل للورق، وليس حتى للتوقيعات التي عليه (وهو بديل أقل كفاءة، أعلى تكلفة، أكثر ضررًا بالبيئة، وأدنى احترامًا للخصوصية، وغير عملي من الأصل). ومن ثم، فإن جميع المؤسسات والجهات الرسمية التي تمنح للورقة معناها وقيمتها، تظل ضرورية كما كانت.
فعند استخدام سلسلة الكُتل، تتحمّل كلفة اللامركزية في نظام يُفترض أنه لا يحتاج إلى الثقة، رغم أنك لم تُطبّق فعليًا أي لامركزية، ولم تُلغِ الحاجة إلى الثقة أصلًا .
Footnotes
-
لاحظ أن معنى “الإجماع” هنا خاص بعلم الحاسوب؛ فهو لا يعني أن جميع المشاركين يوافقون طوعًا على فكرة، كما هو الحال في المعنى السياسي الشائع للإجماع، بل يعني فقط أن جميع المشاركين يرون الشيء نفسه، سواء اتفقوا أم لا. وفي الحالة الخاصة بسلاسل الكُتل فإن “الإجماع” يتم فعليًا على شيء أراده مشارك واحد ضد جميع الآخرين. ↩
-
المصطلح المستخدم هنا مضلِّل بشكل خاص؛ ففي العالم الواقعي، تكون “المحفظة” في الحقيقة لامركزية، ولا تعمل إطلاقًا كما تعمل في عالم العملات المشفّرة. الأجدر بنا أن نتحدث عن “حسابات” بدلًا من “محافظ”، إذ إن طبيعة المعاملة المالية على سلسلة الكُتل تشبه إلى حد كبير تحويلًا مصرفيًا داخليًا، أكثر مما تشبه تعاملًا نقديًا ↩
-
ولا يعني ذلك أن وجود العملات المشفّرة مبرَّر من حيث المبدأ، بل فقط أن مفهومها الحالي يعتمد، بالضرورة، على تقنية سلسلة الكُتل. أما السؤال عمّا إذا كانت العملات المشفّرة شيئًا جيدًا أم لا، فليس هو موضع النقاش هنا (مع الإشارة إلى أنها ليست كذلك). للمزيد، راجع: The List of Tired Crypto Talking Points. ↩